تأرجح الموقف الأمريكي- بين غزة، إسرائيل، والانتخابات.

المؤلف: فايد أبو شمالة10.31.2025
تأرجح الموقف الأمريكي- بين غزة، إسرائيل، والانتخابات.

منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة، تراكمت التحليلات والتفسيرات حول الموقف الأميركي، وشهدت التصريحات الصادرة من واشنطن تبدلات جمة وتقلبات لافتة على مر الشهور الماضية. هذا التضارب والتشوش جعل من العسير تحديد مآرب الإدارة الأميركية الحقيقية، ومدى قدرة الولايات المتحدة على التأثير الفعلي في مسار الصراع ومستقبله.

سأحاول في هذه القراءة سبر أغوار الموقف الأميركي، بالاعتماد على رصد دقيق لتحركات الإدارة، وتحليل التصريحات الصادرة عن المسؤولين والمتحدثين، مع ربط ذلك بالتطورات الميدانية المتسارعة.

تراجع أهمية الموقف الأميركي

ربما نشهد اليوم، وللمرة الأولى في تاريخ الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، تراجعًا ملحوظًا في النفوذ الأميركي، وعجزًا عن التأثير بشكل حاسم في مجريات الحرب الدائرة.

يبدو جليًا أن الاحتلال الإسرائيلي لا يزال على ثقة بأن الولايات المتحدة لن تتخذ إجراءات قاسية للضغط على حكومة نتنياهو، وأن أي تصريحات أميركية تظل بلا قيمة ما دامت لا تتحول إلى خطوات عملية ملموسة، سواء على الصعيد العسكري أو السياسي.

ومع ذلك، تلوح في الأفق بعض المؤشرات التي تنذر بالخطر بالنسبة لنتنياهو، وتتعلق بمسألة الإمداد بالذخيرة. من أبرز هذه المؤشرات المساءلة التي خضع لها وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن أمام لجنة المخصصات بمجلس الشيوخ، والتي تمحورت حول تعليق شحنة أسلحة كان من المفترض إرسالها إلى إسرائيل بعد بدء عملية اجتياح المنطقة الشرقية من رفح، على الرغم من معارضة الإدارة الأميركية المتكررة لأي عملية واسعة النطاق في رفح.

وقد أكد وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، أن قرار الرئيس جو بايدن بتعليق شحنة أسلحة إلى إسرائيل جاء في سياق خطط الأخيرة لشن هجوم على رفح، وهو الأمر الذي تعارضه واشنطن، خاصة في ظل غياب ضمانات كافية لحماية المدنيين الأبرياء.

وأشار وزير الدفاع الأميركي بوضوح إلى أن "القرار النهائي بشأن كيفية المضي قدمًا فيما يخص تلك الشحنة لم يُتخذ بعد".

أثارت هذه التصريحات عاصفة من ردود الفعل الغاضبة في إسرائيل وبين أنصارها الصهاينة، وتفاقم هذا الغضب بسبب التصريحات التي أدلى بها الرئيس بايدن نفسه في مقابلة مع شبكة "سي إن إن"، والتي أكد فيها أنه إذا غزت إسرائيل مدينة رفح، فإن الولايات المتحدة ستتوقف عن تزويدها بقذائف المدفعية، وقنابل الطائرات وغيرها من الأسلحة الهجومية.

وفي الوقت نفسه، أكد بايدن أن الولايات المتحدة "ستواصل تزويد إسرائيل بالأسلحة الدفاعية اللازمة".

ولعل من أقوى ردود الفعل الإسرائيلية على هذه التصريحات ما صدر عن الوزير المتطرف إيتمار بن غفير، الذي كتب على حسابه على منصة "إكس" أن "حماس تحب بايدن". وسارع الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ إلى التعليق على ذلك، مشددًا على ضرورة تجنب التصريحات غير المسؤولة والمهينة التي تضر بمصالح إسرائيل الأمنية.

أما نتنياهو، فقد ساند بن غفير ودافع عن موقف حكومته بشأن دخول رفح، مؤكدًا أنه "إذا تعين على إسرائيل أن تقف بمفردها وأن تقاتل بأظفارها فحسب إن اقتضت الحاجة، فسنفعل ذلك بكل فخر واعتزاز".

وكان متحدث باسم الحكومة الإسرائيلية قد صرح الأربعاء الماضي بأن إسرائيل ليس لديها ما تضيفه بشأن وقف الولايات المتحدة إمدادها ببعض الذخائر، وذكر أنه علم بأمر التقارير المتعلقة بذلك، لكنه أضاف: "أنا، بشكل شخصي، والحكومة الإسرائيلية ليس لدينا ما نضيفه بشأن هذه التقارير في الوقت الحالي".

وعلى النقيض من تلك التصريحات، صرح بيني غانتس، عضو مجلس الحرب والمنافس السياسي القوي لنتنياهو، والذي يحظى بعلاقات جيدة مع الإدارة الأميركية: "أنا أعتقد جازمًا أن شحنات السلاح الأميركي ستتواصل دون انقطاع".

مفاوضات وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى

من الواضح بجلاء الاهتمام البالغ الذي توليه الولايات المتحدة لمسار المفاوضات الأخيرة، ولا يوجد دليل أبلغ على ذلك من مشاركة مدير المخابرات المركزية شخصيًا في المفاوضات، ولو بطريقة غير مباشرة.

في هذه المرحلة الحساسة، تحرك ويليام بيرنز شخصيًا نحو إسرائيل في محاولة حثيثة لإقناع نتنياهو بقبول الورقة الأخيرة التي صاغها بنفسه تقريبًا، أو بجهد مشترك مع الوسيطين المصري والقطري. هذه الورقة التي حظيت بقبول مفاجئ من حركة حماس، في خطوة تعكس دهاءً سياسيًا، في وقت كان يتوقع فيه الاحتلال أن ترفضها حماس، مما يمنحه الذريعة لاجتياح رفح دون إثارة غضب أو استياء الأميركيين.

ألقت حماس بحجر كبير في بحيرة نتنياهو وحكومته الراكدة التي يسيطر عليها المتطرفون، مما أحدث ارتباكًا كبيرًا في الموقف تجاه تلك الورقة. وبدلًا من محاولة التأقلم مع هذا الوضع الجديد واستمالة الجانب الأميركي، وعدم التمادي في مخالفة ما يريده، اتجهت حكومة نتنياهو في الاتجاه المعاكس تمامًا، وبدأت عملية عسكرية مثيرة للجدل في رفح، وأرسلت وفدًا إلى القاهرة محملًا بمواقف وملاحظات على الورقة تنسف جوهرها، وتقوض جهدًا مضنيًا بذله وليام بيرنز مدير المخابرات الأميركية على مدى أيام طويلة، بتكليف مباشر من الرئيس بايدن، الأمر الذي وضعه في حرج بالغ أمام الوسطاء وأمام حماس التي أظهرت تعاونًا ومرونة كبيرة في التعاطي مع جهود بيرنز والوسطاء.

الصراعات الداخلية والمنافسة الانتخابية

مع كل ما سبق ذكره، لا يمكننا أن نعتمد بشكل كامل على الموقف الأميركي أو نراهن عليه بشكل قاطع، لأن التحالف الاستراتيجي العميق بين الإدارة الأميركية وإسرائيل لا يزال أقوى تحالف عسكري في العالم.

يشهد الداخل الأميركي مشهدًا معقدًا وملتبسًا للغاية، فمن ناحية، تستعر الحملة الانتخابية الرئاسية، ومن المؤكد أن موضوع دعم إسرائيل سيكون مادة أساسية لاستقطاب أصوات الناخبين، نظرًا لقوة تأثير اللوبي الصهيوني في هذه الانتخابات، سواء على الصعيد المالي أو الإعلامي. وقد تحرك الجمهوريون بطريقة أثارت الدهشة والاستياء، وشنوا حملة شرسة على الرئيس بايدن وإدارته بسبب قرار تعليق شحنة الأسلحة.

وقد صرح السيناتور الجمهوري البارز ليندسي غراهام في مؤتمر صحفي تعليقًا على تصريحات بايدن: "إسرائيل تخوض قتالًا عادلاً يتوافق مع القوانين الدولية، وليس هناك حل لاستعادة المختطفين الإسرائيليين سوى زيادة الضغط على حماس. أنا أثق في إسرائيل أكثر مما أثق في وزير الدفاع الأميركي، وعلى بايدن أن يعيد النظر في قرار تجميد شحنة الأسلحة لإسرائيل فورًا!"

أمام هذا المشهد المعقد، تبدو الإدارة الأميركية وكأنها تقف على مفترق طرق، وتواجه خيارات صعبة للغاية. فإما أن تتمسك بمسارها الحالي، ومحاولة إنجاز صفقة من خلال مزيد من المحاولات التفاوضية مع الأطراف المعنية، وهو مسار محفوف بالكثير من المصاعب، أهمها أن إستراتيجية نتنياهو التي يتبعها منذ السابع من أكتوبر الماضي تقوم على أساس استمرار الحرب إلى ما لا نهاية، لأن توقفها سيسبب له ولحكومته مصاعب جمة لا حصر لها، فضلًا عن آثاره بعيدة المدى على مكانة إسرائيل وقوتها في حال بقيت حماس كقوة سياسية وعسكرية فاعلة ومؤثرة في المشهد الفلسطيني.

أما المسار الثاني، فهو أن يدخل بايدن وإدارته وحزبه في منافسة محمومة مع الحزب الجمهوري على استرضاء نتنياهو واستعطاف اللوبي الصهيوني، وهو ما سيضعه في مواجهة صراعات حادة مع قطاعات واسعة داخل حزبه، وداخل المجتمع الأميركي، خاصة مع فئة الشباب الذين ارتفع صوتهم عاليًا في حراك الجامعات، وفي استطلاعات الرأي التي تظهر اتجاهًا قويًا نحو ضرورة وقف العدوان الإسرائيلي على غزة، وإنهاء حرب الإبادة المستمرة منذ أكثر من سبعة أشهر.

كما أن ذلك سيفرض على الإدارة الأميركية التعامل مع احتمالات تصعيد كبيرة في منطقة الشرق الأوسط، الأمر الذي قد يسبب أضرارًا بالغة بمصالح الولايات المتحدة، ويتيح الفرصة لدخول منافسين جدد على الساحة، مثل روسيا والصين بالتعاون مع إيران وحلفائها، وهو ما يشكل الكابوس الدائم لبايدن وإدارته التي ترغب بالعودة إلى مسار التطبيع، وإغلاق المنطقة تمامًا لتبقى حكرًا على النفوذ الأميركي، وتحديد الأدوار والمساحات التي يسمح لخصومها الإقليميين بالعمل فيها، بما لا يؤثر على السيطرة الأميركية إستراتيجيًا.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة